تونس – لبنى النجار
عندما انخرطت “حنان” في مشروع لتعزيز التمكين الاقتصادي للنساء عبر المبادرات التنموية المدرة للدخل، لم تكن تعرف أنه يتعين عليها أن تفهم جيدا معنى التغير المناخي والتحكم في الموارد الطبيعية وأن تتمكن من أساليب التحويل والتدوير وكل أساسيات الإنتاج الصديق للبيئة. ولم تكن تدرك أيضا كيف يمكن لأزمة شح المياه أن تؤثر على الأمن الغذائي والطاقة والنظم الايكولوجية…. وغيرها من المسائل ذات الأولوية في تعزيز الصمود أمام أزمة المناخ.
حنان ونساء أخريات بدأن يخطين خطواتهن الأولى نحو ريادة الأعمال النسائية عبر زراعة وتحويل المنتجات المحلية وتثمينها. ومازال أمامهن الكثير ليتعلمنه حتى يصبحن قادرات على الصمود أمام التغيرات المناخية المتسارعة والتي ما انفكت تهدد الكوكب والناس. إذ كيف لامرأة في إحدى أرياف ربوع تونس أن تلحظ موجة التغيرات التي تعيشها كل أنحاء العالم دونما استثناء وإن بتفاوت؟ جفاف هنا وفيضانات هناك. تصحر هنا ورطوبة عالية هناك. احتباس حراري متزايد وشح في الموارد، وتراجع في جودة وحجم المنتجات. كيف لها أن تعي تداعيات هذه التغيرات على موجات الهجرة والنزوح وارتفاع منسوب العنف خاصة ضد النساء والفتيات.
أول درس تعلمته “حنان” بانخراطها في المشروع هو أنه للنساء دور بارز وحيوي في مواجهة التغيرات المناخية وخاصة مجابهة الجفاف. وأنها وغيرها من النساء لسن ضحايا يجب انقاذهن، بل فاعلات رئيسيات في الحدّ من تغير المناخ والمحافظة على إرث الطبيعة للأجيال القادمة. فهن حارسات الأرض ورمز الصمود والأمن في كوكب يدور دون توقف مثقلا بالكثير والكثير من التحديات التي خلّفها الإنسان ووقع في فخ مخاطرها، ويدفع ثمنها ملايين من الأبرياء لاسيما من النساء.
فبحسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، 158 مليون امرأة وفتاة وقعن في براثن الفقر نتيجة مباشرة لتغير المناخ، بما يزيد على 16 مليوناً من العدد الإجمالي للرجال والفتيان المتأثرين.
“عندما تتحدث مع نساء الأرياف عن التغير المناخي، يجب عليك أن تبني جسرا لتعبر من السياق الدولي نحو المشاكل والتحديات على الصعيد المحلي” تقول الباحثة في علم المناخ الدكتورة شيراز بالحاج خذر، وتضيف موضحة “لا يتعيّن الحديث عن قضايا التغير المناخي في أبعادها الشاملة أو الدولية فحسب، فالعالم بحاجة اليوم إلى فهم تداعياتها العميقة على المستوى المحلي… فما حدث في الإمارات من فيضانات غير مسبوقة، أو حرائق تونس موفى سنة 2023 وغيرها من الكوارث الطبيعية هنا وهناك ترتبط بخصوصية كل منطقة. فلكل منطقة جغرافية مشاكلها البيئية. لذا لا يستقيم التعميم أو الحديث عن هذه التغيرات بشكل مطلق”.
على الصعيد الدولي، جهود مجابهة التغير المناخي لم تؤت أكلها على النحو المطلوب، وكذلك على المستويات الوطنية. توجد اليوم بلدان تمر حاليا بمرحلة التخفيف من مخاطر التغير المناخي، وتوجد بلدان أخرى في مرحلة التكيف معها. وتوجد بلدان أكثر تضررا من انبعاثات الغازات الكربونية بالرغم من أنها دول غير مصنعة. ولعل المفارقة الكبرى تكمن في أن أكثر البلدان تضررا من المخاطر البيئية هي الأقل تصنيعا وتلويثا للبيئة.
تماما كمثل هذه البلدان، تظل النساء الأكثر تضررا من المشاكل البيئية القديمة منها والمستجدة. فمن المؤكد وبحسب عديد الدراسات والتقارير، ونتائج المؤتمرات والاتفاقيات على غرار مؤتمر المناخ في دوراته المتتالية واتفاقية باريس وغيرها…، تنعكس الآثار السلبية للأزمات المرتبطة بالتغير المناخي على النساء أكثر منها على الرجال، وتضاعف من التهديدات التي يتعرضن لها، خاصة تلك المرتبطة بالأمن الغذائي وبالهجرة القسرية والعنف المبني على النوع الاجتماعي والمخاطر الصحية وعواقب الكوارث الطبيعية. وتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) إلى توسّع الفجوة بين الجنسين في مجال انعدام الأمن الغذائي في عام 2021، إذ أن 31.9% من النساء في العالم يعانين انعداماً معتدلا أو حادا في أمنهن الغذائي، مقارنة بنسبة 27.6% من الرجال.
ويمكن لتغير المناخ، إذا استمر، أن يدمّر أو يغيّر حياة العديد من النظم البيئية والسكان. هذه التغيرات تؤثر بشكل مباشر وبنسق متسارع على حياة صغار المزارعين، ما يجعل النساء المزارعات مجبرات على تغيير أساليبهن الزراعية والبذور والمنتجات التي يستخدمنها، والحال أنهن لسن مسؤولات عن ظاهرة الاحتباس الحراري أو تلوث الهواء. كما سيجدن أنفسهن مضطرات إلى تعلم أساليب زراعية جديدة، أو سيجدن أنفسهن مجبرات على تغيير مناطق سكنهن إن اقتضى الأمر.
التعاونيات النسائية والتنمية المستدامة
حنان وزميلاتها في مجمع التنمية الفلاحية “كتانات” بنفزة (شمال تونس) انطلقن في تعلم مثل هذه الأساليب الزراعية التي تتلاءم مع التغيرات المناخية: الاقتصاد في مياه الري عبر اعتماد الري قطرة-قطرة لاسيما بعد تعاقب مواسم الجفاف في تونس على مدى سبعة أعوام متتالية، واستعمال التسميد الطبيعي ومعالجة النباتات باستعمال النباتات الطبيعية عوضا عن المواد الكيميائية، واستغلال بقايا الفول السوداني في إنتاج الورق وتسميد الأرض.
شكلت التعاونيات النسائية مدخلا جيدا للإدماج الاقتصادي وتمكين النساء. ولقي العمل التعاوني تشجيعا باعتباره “نمطا رئيسيا في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، يتجلى ذلك سواء من حيث عدد مواطن الشغل التي يخلقها، أو من حيث مشاركته في التنمية الاقتصادية والإدماج الاجتماعي”، وأدى ذلك إلى بروز أنشطة جديدة، من قبيل تحويل المنتوجات المحلية وتثمينها، والحرف التقليدية المبتكرة والإلكترونيات، والاقتصاد الأخضر والدائري… كما أفسح أيضا المجال، من جهة أخرى، للتعاونيات للانفتاح على المعارض والأسواق الدولية.
لدى مشاركتها في الصالون الدولي للاستثمار الفلاحي والتكنولوجيا المنعقد بتونس، تتحدث حنان لعدد من الزوار عن سلامة المنتوج وجودته. وتشرح لهم آلية تجفيف الخضروات بالشمس واختلافها عن طرق التجفيف الأخرى، مشيرة إلى أن تحويل المنتجات الزراعية يحترم أسس السلامة الصحية والمحافظة على البيئة ما يعطي قيمة مضافة على منتوجاتها المعروضة. تقول في هذا الصدد “بفضل التدريبات التقنية التي تلقيتها، لم أعد أقوم بتحويل المنتجات الزراعية بمعزل عن البيئة المحيطة. على العكس تماما، ارتفع مستوى معرفتي بالتحديات البيئية وتداعيات التغبر المناخي، وتمكنت من اكتساب المهارات لتطبيق بعض الطرق الكفيلة بتعزيز قدرتي على التكيف مع هذه التغيرات”.
تلتجأ النساء في أوضاع هشة أكثر فأكثر نحو إطلاق مشاريع ومبادرات مدرة للدخل متصلة بالتنمية الزراعية وبالتصنيع الغذائي وغيرها من المجالات التي تعتمد بشكل أساسي على الموارد الطبيعية. ولئن توفر هذه المبادرات موردا ماليا يحسن من حياة النساء وأسرهن، ويسهم في إدماجهن في الدورة الاقتصادية. إلا أن هذه المبادرات قد تفتقر إلى عوامل الاستدامة لا سيما فيما يرتبط بارتفاع تكاليف الإنتاج وخاصة كلفة الطاقة والتزود بها بصفة مستدامة. فرغم ما حققته النساء الريفيات من خطوات مهمة في تطبيق الزراعة المستدامة، إلا أن هذه المبادرات تواجه تحديات اقتصادية كبيرة. من بين هذه التحديات، نجد صعوبة الحصول على تمويل مستدام، إضافة إلى نقص في الوصول إلى التقنيات الحديثة التي يمكن أن تزيد من إنتاجية المشاريع وتحسن من جودة المنتجات.
التحديات البيئية وترابط الموارد
ويحيل ما سبق إلى أن استثمار الموارد الطبيعية يجب أن يأخذ في الحسبان ترابط وتداخل العديد من الموارد وتأثيرها بعضها في البعض الآخر. فكوكبنا الأزرق الذي يعاني أكثر من أي وقت مضى من أزمة شح المياه، يواجه كذلك وبشكل متسارع تحديات كبرى ترتبط بطرق إدارة الموارد الطبيعية ومواجهة التحديات المناخية المختلفة. ولعل فهم ودراسة هذا الترابط فيما بين الموارد الطبيعية قد يساعد في التكيف الإيجابي مع المخاطر البيئية وفي وضع حلول مستدامة للتغلب على التحديات المتزايدة.
تشمل خطة التنمية المستدامة 2030 ذات السبعة عشر هدفا والـ169 غاية، حزمة من الأهداف المترابطة فيما بينها فيما يتصل بالمحافظة على البيئة والتنمية المستدامة لاسيما في غاياتها المتعلقة بالأمن الغذائي (الهدف 2) والطاقة المستدامة (الهدف 7) والإدارة المستدامة للموارد الطبيعية (الهدف 12) و تعزيز المرونة والقدرة على الصمود (الهدف 13) وحماية البيئة (الهدف 15)… وهذا يعني أن تحقيق جميع أهداف التنمية المستدامة في آن واحد يقتضي فهم ومراعاة أوجه الترابط والتكامل بين هذه الأهداف. لكن الترابط لا يكمن في أهداف خطة 2030 فقط، إذ يتزايد الحديث اليوم عن مدى أهمية اعتماد ترابط المياه والطاقة والغذاء والنظم الايكولوجية باعتباره نموذج تدخل يسهم في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز المساواة ودفع التمكين الاقتصادي للنساء لاسيما على الصعيد المحلي.
وبحسب دراسة حول موضوع ترابط المياه والأغذية والطاقة والنظم الايكولوجية، يرتبط الأمن المائي وأمن الطاقة والأمن الغذائي فيما بينهما ارتباطا وثيقا. ذلك أن إنتاج الغذاء يستوجب استخدام المياه. ويحتاج استخراج المياه ومعالجتها وإعادة توزيعها إلى الموارد الطاقية. وبدوره يتطلب إنتاج الطاقة توافر المياه. “وتؤثر موارد الطاقة على أسعار المواد الغذائية وذلك عبر صناعة الأسمدة وأعمال الحراثة والحصاد والنقل والري ومعالجة المياه. كما أن الضغوط البيئية والتغيرات المناخية ونمو الاقتصادات والسكان تزيد من شدة الترابط الموجود أصلا بين هذه النظم”.
لقد أشارت مؤتمرات دولية عدة إلى وجود حاجة إلى نهج ترابطي جديد لمعالجة المستويات الحالية من انعدام الأمن للوصول إلى الخدمات الأساسية، وأن يأخذ هذا النهج بعين الاعتبار على نحو أفضل الترابط والتداخل بين مختلف القطاعات الغذائية والمائية والطاقة بالإضافة إلى تأثير السياسات الخاصة بالتجارة والاستثمار والمناخ.
ويواجه الترابط بين موارد المياه والغذاء والطاقة والنظم البيئية خطرا عالميا يهدد بشكل كبير الأمن البشري والاجتماعي والسياسي. وغالبا ما تحدث عواقب غير مقصودة عندما يحاول صناع القرار حل جزء من هذا الترابط مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الجزء الآخر. الأمر الذي يدعو إلى وجوب خلق إطار عمل شمولي يحدد بوضوح الترابط بين هذه النظم ومدى تأثير كل منها على الآخر.
فإطعام البشر وتحقيق الأمن المائي وأمن الطاقة وتعزيز جهود المحافظة والاستخدام المستدام للطبيعة هي أهداف متكاملة ووثيقة الترابط والتشابك. ويقتضي تحقيقها اتباع نظم غذائية تتعاون مع الطبيعة وتقلل النفايات وتتسم بالقدرة على التكيف مع التغيير والصمود في مواجهة الصدمات. وهو ما يمكّن صغار المزارعين لا سيما المزارعات من القيام بدور محوري في التحدي المتمثل في تحقيق الأمن الغذائي وأمن الطعام.
تقول حنان في هذا الصدد “أطمح على المدى القريب في الاستثمار في الأكلة المدرسية. فمن خلال منتوجاتي التي تثمّن الموارد الطبيعية المحلية الخاصة بالجهة التي أنتمي إليها، أريد أن أساهم في البرنامج الوطني للوجبات المدرسية الذي تعتمده تونس. إذ يدعم ذلك الزراعة المستدامة وكذلك الأمن الغذائي للأطفال واليافعين”.
وما من شك في أن المياه النظيفة والغذاء والطاقة هي موارد أساسية للبقاء على قيد الحياة، ويمكن أن يؤثر غياب أي منها على صحة الناس وأمنهم الغذائي وسبل عيشهم في جميع أنحاء العالم، مثلما يؤثر بشكل كبير على صحة الأجيال القادمة وحياتهم. وإذا علمنا أن العام 2050 سوف يشهد وصول عدد سكانه إلى عشرة مليارات نسمة وفقا للتقديرات الدولية، ومع تواصل استنزاف الموارد البيئية من أجل تلبية الاحتياجات، يبدو ترشيد استخدام هذه الموارد دون الإضرار بالنظم البيئية، ضرورة وليس خيارا، ويصبح صمود النساء في مواجهة التغير المناخي أكثر من مجرد قدرة على التكيف، بل تعزيز للرفاه الاجتماعي داخل مجتمعاتهن.
عندما تنجح النساء في تنفيذ مبادرات صديقة للبيئة تعزز الصمود أمام التغير المناخي، فإنهن لا يحققن الأمن الغذائي فقط، بل يساهمن في تحسين ظروف عيش أسرهن، ويخلقن فرص عمل جديدة. إنهن يصبحن قادة في محيطهن ليس بالمعنى التقليدي للكلمة بل من خلال مهارتهن “التحويلية” لجعل مجتمعاتهن أكثر اعترافا بأدوار النساء وأكثر انخراطا في جهود التصدي للتغيرات المناخية.
تنشر هذه المادة بالتعاون مع مؤسسة تاز بانتر الألمانية وضمن مشروع كرين بانتر