من الضباب جاء الماء: نساء سيدي إفني في زمن العطش الكبير

المغرب – روان الشرايري

وسط جبال آيت باعمران، على بعد 17 كيلومترًا من مدينة سيدي إفني الساحلية جنوب المغرب، تتوزّع 16 قرية تأوي أكثر من 700 نسمة. هنا، اعتادت عائلة فاطمة أن تعيش من دون شبكة ربط للمياه ولا للكهرباء، مثل معظم عائلات المنطقة، وسط مناخٍ جافّ وتضاريس وعرة تجعل من أبسط احتياجاتهم اليومية تحدّيًا شاقًا تتحمّل عبئه أجساد النساء.

كان ذلك قبل عام 2010، الذي شكّل تحوّلًا كبيرًا لسكّان المنطقة من خلال مشروع حصاد الضباب الذي أمّن المياه لبيوت تلك القرى، وأعفى النساء من مهمّة البحث عن المياه التي توارثنها من أجيال سابقة. خضع المشروع منذ ذلك الوقت لتعديلات عدّة، تمثّلت بتبديل الشباك المسؤولة عن قطاف الضباب، كان آخرها عام 2021. علمًا أنّه لم يكن أحد يتصور أن الضباب، ذلك الزائر الرمادي الذي يغلّف جبال سيدي إفني في الصباحات الباردة، سيصبح يومًا مصدرًا للحياة.

فاطمة ونساء الجبل: أدوار متعددة في مواجهة القسوة

اعتادت فاطمة أن تستيقظ كلّ صباح مع أولى خيوط الفجر. لا توقظها منبّهات الهواتف، بل يوقظها خوفها من أن يعطش أبناؤها، وألا تجد ماءً تسد به ظمأهم. تنهض المرأة، وهي تعلم أنّ رحلة طويلة في انتظارها نحو البئر، فتوقظ ابنتها الصغيرة، ذات العشر سنوات، لترافقها وتساعدها، ولكي تتمرّن على هذه العملية الشاقة، الضرورية لاستمرار الحياة هنا، بين الجبال الجافة. فاطمة، امرأة جبلية في منتصف الثلاثينات، لم تعرف المدرسة ولا الراحة مثل معظم النساء في المناطقة الجبلية المغربية اللواتي يلعبن دورًا حيويًا في الحياة اليومية. تشارك فاطمة في العمل الزراعي، وفي تربية المواشي، وجمع الحطب، وجلب المياه، إضافة إلى مسؤولياتها المنزلية ورعاية الأطفال؛ كلّ ذلك في ظل ظروف طبيعية قاسية ونقص في الخدمات الأساسية، وحتى في الموارد مثل المياه.

حين تنقص المياه من البيت، كانت فاطمة تُجهّز جِرار الماء البلاستيكية، وتضعها على جانبي الحمار، ثم تمسك بيد ابنتها الصغيرة وتنطلق في طريق حجري ضيق، يتسلق الجبل ويمر عبر مسالك وعرة محفوفة بالخطر. الطريق نحو البئر ليس مجرد نزهة، بل اختبار يومي لقوة التحمل. الصخور تنهك الأقدام، والشمس تبدأ في تسخين الأرض حتى قبل منتصف النهار. أحيانًا، تسقط الجرة وتنكسر، وأحيانًا تتعثر الطفلة وتبكي، فتضطر فاطمة إلى حملها على ظهرها وتكمل المسير. كما أن الحمار بدوره يتعب ويجوع، فيجري هاربًا نحو بعض العشب، فتجري فاطمة خلفه لتعيده إلى الطريق.

وبعد ساعات من المشي، تصلان إلى البئر. تطلّ فاطمة على البئر لتتأكد من وجود ماء، فالماء في هذه المناطق شحيح، وقد لا تجد شيئًا. ترمي جرتها البلاستيكية المربوطة بحبل طويل حتى تصل إلى قاع البئر، وتجرّ ما تيسّر من الماء. تكرّر العملية حتى تملأ جرارها، ثم تضعها على ظهر الحمار من جديد، وتبدأ رحلة العودة نحو البيت، حيث ينتظرها أبناؤها الثلاثة لتُعدّ لهم الطعام، وتغسل ثيابهم وأبدانهم.

لكن في السنوات الأخيرة، بدأ يظهر جفاف البئر، فكانت تعود أدراجها خالية الوفاض، وهي تفكّر في كيف ستقنع أطفالها الصغار أنه لا ماء اليوم، وأن الاستحمام مؤجل إلى مرّة أخرى، وأن الغسيل سيبقى مكدسًا.

كما هو الحال بالنسبة إلى نساء كثيرات في جبال المغرب الشاهقة، ليست الحياة الشاقة استثناءً، بل هي واقع يومي تُترك فيه المرأة وحيدةً تكابد قسوة الجغرافيا وتضاريسها الوعرة. وفي المقابل، يشدّ الشباب الرحال نحو المدن الكبرى بحثًا عن آفاق مستقبلٍ أرحب، فينخرطون في ورشات البناء أو أعمال التجارة، لتصبح تحويلاتهم المالية شريان حياة تعتمد عليه أسرٌ عديدة في القرية، مؤمّنةً بذلك الحد الأدنى من مقومات الصمود الاقتصادي. أما الرجال الذين آثروا البقاء، فتتركّز جهودهم على رعاية الماشية، التي تمثّل عصب الاقتصاد المحلي، إلى جانب الاهتمام بخلايا النحل وبيع عسلها، وغرس الأشجار وزراعة الخضروات لسدّ الاحتياجات الذاتية، فضلاً عن تكفّلهم بتأمين متطلبات البيت الأساسية كجمع الحطب والتسوق.

الجغرافيا والمناخ: عوامل تعمّق الأزمة

تعاني المنطقة من عزلة جغرافية حادة تجعل من تنفيذ مشاريع الربط بالماء والكهرباء تحديًا كبيرًا. فوعورة التضاريس، وارتفاع تكاليف الإنجاز، وانخفاض الكثافة السكانية، كلّها عوامل تعرقل إيصال الخدمات الأساسية إلى سكان القرى الجبلية. ورغم إعلان المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب أن نسبة الولوج إلى الماء في العالم القروي بلغت 98.4٪ بنهاية عام 2023، إلّا أنّ هذه الأرقام لا تعكس واقع القرى المعزولة، التي لا تزال مستثناة فعليًا من الشبكات العمومية، وتعيش على الهامش بلا خدمات صحية أو تعليمية كافية.

وبينما تتواصل التصريحات الرسمية حول مشاريع التزويد بالماء، في إطار البرنامج الوطني 2020-2027، فإن القرى البعيدة مثل قرية فاطمة لا تلمس أي تحسّن ملموس. على الورق، تبدو الأرقام مبشّرة، لكن واقع هذه المناطق الجبلية يكشف عن غياب شبه تام للبنية التحتية. فاطمة وأولادها – مثل مئات العائلات الأخرى – ما زالوا ينتظرون قطرة ماء من شبكة لم تصل إليهم قط. الإهمال هنا لم يعد خفيًا، بل صار واقعًا يوميًا يعيشه السكان، ويختصره صمت الصنابير، وجفاف البيوت، وتعب النساء في رحلة البحث عن الماء.

يقول أيوب كرير، وهو ناشط بيئي مغربي وباحث في علوم المجال والتنمية المستدامة: “المناخ بمنطقة آيت باعمران جاف نسبيًا بطبيعته، حيث يعتمد كلّ سكّان المنطقة على مياه الآبار التي تتغذى من المياه الجوفية القادمة من الثلوج المتساقطة على قمم الجبال. ضاعف الاحتباس الحراري شح التساقطات في المنطقة، ما تسبب في جفاف العديد من الآبار وجعل  الحصول على الماء مهمة صعبة تتطلب السير لما يناهز 20 كيلومترًا تتكبدها نساء المنطقة”. ويضيف كرير: “في منطقة آيت باعمران يعتمدون على بعض الزراعات المعيشية البورية، أي التي تحتاج القليل من الماء وتعتمد على التساقطات، كبعض الخضر والحبوب والبقوليات، كما تعتبر تربية الماشية وخاصة الماعز مناسبة لخصائص المنطقة”.

التغير المناخي وتحدي البقاء: بين الجفاف ورفض الهجرة

المناطق التي تعاني من أزمات في المياه، تكون أكثر تأثّرًا بالتغيّر المناخي الذي غالبًا ما يصيب مصادر المياه، على ندرتها، مباشرةً. هكذا، لم تكن جبال آيت باعمران بمنأى عن آثار التغير المناخي الذي يضرب الكوكب بقوّة متزايدة. مخلفات الصناعات الكبرى، والحاجة المتسارعة للاستهلاك، تواصلان تقويض توازن الأرض، رافعتين من درجات حرارتها عامًا بعد عام. في السنوات الأخيرة، تحول التغير المناخي من تحذير علمي إلى واقع يومي ملموس، حتى في أكثر المناطق عزلة.

فبحسب بيانات خدمة “كوبرنيكوس” لتغير المناخ التابعة للاتحاد الأوروبي، بلغ متوسّط درجات الحرارة العالمية في أحد شهور يناير الأخيرة حوالي 1.75 درجة مئوية فوق معدلات ما قبل الثورة الصناعية، وهو أعلى معدل يُسجَّل لهذا الشهر منذ بدء التوثيق. هذا الارتفاع لا يمرّ دون تبعات، فهو يهدد الأمن المائي، ويزيد من فترات الجفاف، ويقلّص من قدرة السكان على العيش في توازن مع بيئتهم.

ورغم شحّ الموارد وصعوبة الحياة، لا يفكر كثير من سكان هذه المناطق، ومنهم فاطمة، في الهجرة نحو المدينة. تقول فاطمة: “لا يمكنني العيش في المدينة… أحس أن الجو هناك ملوّث بدخان السيارات والسجائر. أحب أن أعيش قريبة من الطبيعة، بين الجبال التي كبرتُ فيها.” ثم تضيف بنبرة غاضبة: “حتى الرجال يُستغلّون هناك… قلة تكوينهم وكونهم قادمين من الجبل تجعلهم عرضة للنصب والاستغلال. لا نريد مغادرة مسكننا، فنحن وُلدنا هنا، ولنا الحق أن نعيش بكرامة هنا.. لكن بدون ماء… يستحيل أن نستمر.”

ووفق المندوبية السامية للتخطيط، وهي الجهة الرسمية للأبحاث المتعلقة بإحصاء سكان المغرب، فإن 152 ألف مغربي ينتقلون سنويًا من القرى إلى المدن، كما أنّ أغلب المهاجرين من الشباب مستواهم الدراسي متدنٍ لصعوبة الالتحاق بالمدارس وبُعدها، ولأنّهم لم يتلقوا أي تكوين مهني فإنهم يكونون معرّضين لكلّ أشكال الاستغلال من طرف المشغّلين في المدينة.

ويؤكّد كرير أن العديد من الأطفال يُحرمون من حقهم في الذهاب للمدرسة بسبب اضطرارهم لمرافقة أمهاتهم في رحلة البحث عن المياه، والمساعدة في أعباء المنزل. وأشار إلى أن هذا الواقع يؤدي إلى ضعف في تكوينهم الأكاديمي، مما يجعلهم عرضة للاستغلال لاحقًا اذا قرّروا الهجرة إلى المدينة هربًا من ندرة المياه في منطقتهم وسعياً وراء فرص عمل أو حياة أفضل.

من الضباب جاء الفرج

بخلاف البحث عن المياه في عمق الأرض، وصل الخلاص إلى قرى المنطقة عبر الضباب، وتحديدًا من خلال مشروع “حصاد الضباب” الذي أطلقته جمعية “دار سي حماد” بقيادة ابن المنطقة الدكتور عيسى الدرهم. قلب هذا المشروع الأزمة رأسًا على عقب، محوّلًا ما كان يُعتبر طقسًا عابرًا إلى نعمة مستدامة. أتى المشروع من فكرة أطلقها الدكتور عيسى الدرهم، أستاذ جامعي مغربي، من أبناء منطقة آيت باعمران، كان قد استقر بكندا منذ سنة 1989. في تلك الفترة، تعرّف إلى أوّل مشروع لحصاد الضباب الذي أُنجز في منطقة كمنشاكا بالشيلي، وهي تجربة ألهمته ووجد فيها فرصة سانحة لتكرار النموذج في منطقته التي تعرف ندرة حادة في المياه.

عاد الدكتور الدرهم إلى المغرب سنة 2000، حيث شرع في إجراء دراسات ميدانية في جبل بومزگيدة، الذي يبلغ ارتفاعه 1225 مترًا عن سطح البحر. وقد بيّنت الأبحاث أن الجبل يتمتع بخصائص مثالية لحصاد الضباب، أبرزها موقعه المرتفع وقربه من المحيط الأطلسي، كونه يبعد نحو 40 كيلومترًا عن بحر سيدي إفني، ما يجعله نقطة مثالية لتكاثف الضباب عند اصطدام الرياح الرطبة بسفوحه. هكذا أطلقت النسخة الأولى المشروع عام 2010، وخضعت الشباك إلى تبديل للشباك بضعة مرّات، كون تقنية المشروع تعتمد على شباك بلاستيكية خاصة، مصنوعة من مواد مثل البولي إيثيلين أو البولي بروبيلين. أما النسخة الأحدث فقد تم تطويرها سنة 2021 بالتعاون مع باحثين من جامعة ميونيخ الألمانية، تحت اسم “كلاود فيشر” (CloudFisher)، بعد تحديات تقنية واجهتها النسخ الأولى المستوردة من أميركا اللاتينية. تغطي الشباك الجديدة أكثر من 1700 متر مربع، وتبلغ إنتاجيتها من 26 إلى 41 لترًا من الماء لكل متر مربع حسب الظروف المناخية. يُجمع الماء المتكثف عبر قنوات موضوعة في قاعدة الشباك، وينقل عبر نظام أنابيب يبلغ طوله 7.2 كيلومتر إلى خزانات بسعة 464 مترًا مكعبًا، لتوزيعه على القرى المجاورة، مستفيدة من الانحدار الطبيعي ودون حاجة إلى ضخ كهربائي.

يغطي المشروع حاليًا 16 قرية تابعة للجماعة القروية بإقليم سيدي إفني، ويستفيد منه بشكل مباشر حوالي 700 نسمة، ويرتفع العدد إلى أكثر من 1000 نسمة خلال فصل الصيف. وتشير المعطيات إلى أن كل وحدة حصاد بمساحة 40 مترًا مربعًا قادرة على إنتاج ما بين 200 و600 لتر من الماء يوميًا، حسب كثافة الضباب وسرعة الرياح.

جنّب مشروع “حصاد الضباب” فاطمة، وباقي نساء المنطقة، مشقّة التنقل اليومي الشاق بحثًا عن الماء في تضاريس وعرة وظروف قاسية. كما أتاح لبنات المنطقة فرصة التركيز على الدراسة، بدلًا من قضاء ساعات في التنقل بين الآبار التي تكون في كثير من الأحيان جافة أو ملوثة.

تقول فاطمة: “الآن لدي صنبور في البيت… حين يسألني أحدهم لماذا لديك صنبور واحد فقط؟ أقول لهم: هذا كل ما أحتاجه، لأنني ذقت طعم غياب الصنبور تمامًا.” وتضيف: “أنا سعيدة من أجل ابنتي وبنات القرية، فهن اليوم لا يضطررن إلى المعاناة كما كنا نحن. لديهن الوقت للدراسة، وأتمنى أن تصبح ابنتي طبيبة إن شاء الله.”

وقد وفر المشروع أيضًا فرص عمل مهمة لشباب المنطقة، الذين يشرفون على الصيانة والتسيير التقني، مما يعزز الاستقرار المحلي، ويسهم في توسعة المشروع ليشمل مناطق جبلية أخرى تعرف نفس التحديات.

بفضل هذه المبادرة الرائدة، تحولت جبال سيدي إفني من رمز للعطش والتهميش، إلى نموذج عالمي في الابتكار البيئي والتكيف مع التغيرات المناخية. الضباب، الذي كان يومًا عابرًا وغامضًا، صار اليوم عنوانًا للحياة والأمل.

 

 يُنشر هذا المقال بالتعاون مع مؤسسة تاز بانتر الالمانية ضمن مشروع “غرين بانتر”.

 

 

Total
0
Shares
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts