لبنان- كلارا نبعه
في زاوية هادئة من أحد الحقول المستصلحة قرب مدينة صور تقف زينب مهدي، نازحة من الناقورة، وهي تمسك بتربة الأرض بين يديها وتستشعر حياة جديدة تنبض في تلك البقعة. منذ عام واحد فقط، كانت زينب، (50 عامًا)، تنهض مع خيوط الفجر الأولى في قريتها الحدودية جنوب لبنان، تتفقد أرضها، تسقي الأشجار، وتزرع الفول والبازلاء.
الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان دفعت المزارعة الجنوبية إلى مغادرة أرضها قسرًا، تاركة وراءها سنوات من الجهد والعمل، فحين اندلعت الحرب، لم يكن أمام زينب وعائلتها سوى الفرار، تاركين خلفهم كل ما بنوه على مدى سنوات.
“أرضنا لم تكن مجرد مصدر رزق، كانت جزءًا من حياتنا”، تقول بصوت يملؤوه الحنين، لم تخسر زينب مصدر رزقها فقط، بل فقدت منزلها الذي كان يحتضن ذكريات طفولتها، وأرضها حيث كانت تزرع الريحان والزعتر.
مساحة للنهوض من جديد
بعد النزوح، انتقلت زينب إلى صور، حيث وجدت نفسها في غرفة بلا فسحة، لا تُشبه حياتها السابقة. أصبحت حينها بلا عمل، ولم تعرف كيف ستتمكن من إعالة نفسها. إلا أن حياتها أخذت منعطفًا جديدًا عندما سمعت عن المشروع الزراعي في صور. لم تتردد في الانضمام، فبالنسبة لها كان الأمر أكثر من مجرد فرصة عمل كان بداية لاستعادة هويتها.
مشروع “بذور صور”، هو ثمرة تعاون بين هيئة الأمم المتحدة للمرأة واتحاد بلديات صور والحركة الزراعية في لبنان، بدأ قبل عام تقريبًا بهدف تمكين النساء النازحات عبر الزراعة العضوية. ولعب دورًا محوريًا في إطلاقه كل من النائبة عناية عز الدين، المنسقة الوطنية للنظم الغذائية ورئيسة لجنة المرأة والطفل في مجلس النواب اللبناني، إلى جانب مؤسسة عامل الدولية وجمعية initiate.
تتذكر زينب اليوم الأول في المشروع: “عندما وصلت، كانت الأرض مليئة بالحجارة والنايلون، لم يكن فيها أي حياة. بدأنا بتنظيفها قطعة بعد اخرى، كنت أشعر وكأنني أستعيد جزءًا من نفسي”. بعد تنظيف الأرض، بدأت زينب وزميلاتها في تجهيز التربة وزراعتها بمحاصيل جديدة، لكن الأمر لم يكن كما اعتادت عليه في قرية الناقورة.
“في أرضي كنت أستخدم بعض الكيماويات والمبيدات، اما هنا تعلمت كيف أجعل الأرض خصبة دون أي مواد كيميائية”. كانت المعارف الجديدة بمثابة ثورة بالنسبة لها، فقد باتت تنظر إلى الزراعة بوصفها علاقة انسجام مع الأرض لا مجرد وسيلة للعيش.
في هذا الصدد، تشير النائبة عناية عز الدين إلى أن المشروع مكّن النساء من توفير احتياجاتهن الأساسية عبر برنامج “النقد مقابل العمل”، إضافة إلى اكتساب مهارات زراعية مستدامة تتيح لهن فرصًا أفضل لتحسين سبل عيشهن مستقبلًا، سواء من خلال استثمار هذه المعرفة في مشاريعهن الخاصة أو توظيفها عند العودة إلى قراهن.
الزراعة كمجتمع ودعم نفسي
تؤكد عز الدين أن أهمية هذا المشروع تتجاوز كونه مصدر دخل مؤقت، إذ شكّل مساحة دعم نفسي واجتماعي للنساء النازحات، مما منحهن شعورًا بالقدرة على مواجهة التحديات. كما أتاح لهن بيئة آمنة للتفاعل وبناء روابط اجتماعية ساعدت في تخفيف آثار النزوح والحرب.
ولم تكن زينب وحدها في هذه التجربة، بل وجدت نفسها محاطة بنساء أخريات، كل واحدة تحمل قصتها وألمها المختلف عن الأخريات وكان المشروع بالنسبة لزينب أكثر من مجرد زراعة، كان مساحة للشفاء. “لم أكن أتخيل أنني سأضحك مجددًا بعد النزوح، لكن هنا بين النساء وبين النباتات التي تنمو، شعرت أنني بدأت أتعافى”.
الحرب لم تسلب المزارعة الجنوبية أرضها فحسب بل أخذت منها شقيقها الذي قُتل خلال القصف الإسرائيلي، وترك رحيله فراغًا لا يُعوّض، وألقى بثقله على تجربة النزوح. ورغم تأمين المشروع للدعم النفسي من مختصين ساعدوا النساء على التعامل مع الصدمة التي خلفتها الحرب، كان الدعم الحقيقي بالنسبة لها هو التربة نفسها.
وخلال الأشهر التي أمضتها في المشروع، لم تكتفِ زينب بالعمل كمزارعة، بل أصبحت مشرفة مسؤولة عن توجيه النساء الأخريات: “في البداية كنت أتعلم، واليوم أساعد غيري على التعلم”. من خلال توجيه النساء، شعرت السيدة بأنها تستعيد دورها ليس فقط كعاملة، بل كقائدة في مجتمعها الصغير.
مشروع صديق للبيئة
يعتمد المشروع بشكل كامل على تقنيات صديقة للبيئة، من الزراعة العضوية إلى ترشيد المياه. ويمثل نموذجًا لمدرسة زراعية متنقلة تعلّم النساء كيفية التفاعل مع الأرض بطريقة مستدامة، وهو ما أكسب زينب خبرة أصبحت تنوي استخدامها في أرضها بالناقورة عند العودة.
“الأرض هنا علمتني أن كل شيء فيها له قيمة،. الأعشاب نعيد تدويرها كسماد، الرماد أصبح بديلًا عن المبيدات، والتبن يحافظ على رطوبة التربة ويطرد الحشرات الضارة”، تقول زينب وهي تشير إلى حقل مليء بالنباتات العضوية.
في هذا السياق، تؤكد سارة سلوم، عضو مؤسس ورئيسة للحركة الزراعية في لبنان، على الأهمية البيئية لهذا المشروع، مشيرة إلى أنه لا يقتصر فقط على تأهيل النساء زراعيا، بل يساهم في إعادة إحياء الأراضي البور وتحويلها إلى مساحات خضراء منتجة.
“لقد قمنا باستصلاح أكثر من 12,000 متر مربع كانت مهملة تمامًا، وزرعنا فيها محاصيل برية وعطرية وغذائية، كما ركزنا على استخراج بذورها للحفاظ على الأنواع المحلية الأصيلة” تقول سلوم.
وتضيف أن أحد الإنجازات البيئية المهمة للمشروع هو خلق بيئة حاضنة لأنواع مختلفة من الكائنات الحية، وبفضل عدم استخدام أي مواد كيميائية، أصبحت الأرض موطنًا للنحل البري، الفراشات، الزواحف، والعديد من أنواع الفطر، مما يعزز التنوع البيولوجي المحلي. “هذا النوع من الزراعة المستدامة لا يحافظ فقط على صحة التربة، بل يعيد التوازن البيئي إلى النظام الزراعي، مما ينعكس إيجابيًا على الإنتاجية وجودة المحاصيل”، توضح سلوم.
وعلى صعيد إدارة المياه، واجه المشروع تحديات تتعلق بشح الموارد، لكنه تمكن من تجاوزها عبر تقنيات مستدامة مثل التغطية بالأعشاب للحفاظ على رطوبة التربة، واستخدام طرق ري غير تقليدية. كما تم تجهيز ثلاث برك مائية لتجميع مياه الأمطار، مما يساهم في الحد من استهلاك المياه الجوفية ويؤمن مصدرًا مستداما للري.
وتلفت سلوم إلى أن المشروع لا يعزز فقط استدامة الموارد الطبيعية، بل يساعد النساء النازحات على التكيف مع تأثيرات التغير المناخي، مثل تغير أنماط هطول الأمطار وزيادة فترات الجفاف. “لقد دربنا المشاركات على تقنيات زراعة البذور البلدية، التي تتميز بمقاومتها للجفاف والعوامل المناخية القاسية، كما رفعنا مستوى الوعي حول أهمية حماية الأشجار البرية والأحراش، والتعامل السليم مع الموارد الطبيعية لتفادي الاستنزاف البيئي”.
أرض زينب في الناقورة، والتي تحمل ذكريات طفولتها وعائلتها، لم تسلم من آثار الحرب. الأشجار التي كانت تظلل الحقول اقتُلعت، والتربة التي اعتادت أن تمنح الحياة جُرفت وتضررت بشكل كبير. “أرضنا كانت مليئة بأشجار الزيتون والأفوكادو”، تقول زينب بأسى، “لكنها الآن تحتاج إلى إعادة بناء شاملة”.
تؤكد النائبة عز الدين أن الجنوب اللبناني تكبّد خسائر بيئية وزراعية هائلة نتيجة القصف الإسرائيلي الذي أدى إلى اندلاع حرائق واسعة التهمت نحو 2192 هكتارًا من الغابات والأحراج والأراضي الزراعية فضلا عن تعطيل النشاط الزراعي وتدمير المحاصيل في مناطق عدة، أبرزها أقضية بنت جبيل، مرجعيون، حاصبيا، النبطية، صيدا، وصور.
وبحسب مرصد الصراع والبيئة الذي يرصد العواقب البيئية والإنسانية فقد دمّرت الحرائق الناجمة عن استخدام الفوسفور الأبيض والذخائر الحارقة مزارع الزيتون إلى جانب المراعي الهامة التي توفر موائل للتنوّع البيولوجي وتسبّبت بأضرار واسعة في المناطق المهمة للزراعة والطبيعة، ويمكن أن يؤثر هذا النوع من الضرر على جودة التربة والمياه، ويحرق المواد العضوية في التربة، ويؤثر على دورات المغذيات وصحة التربة، ويسرّع معدّلات التآكل.
الجنوب الأكثر تضرراً
شهد الجنوب اللبناني كارثة بيئية وزراعية واسعة النطاق نتيجة الحرب الأخيرة، حيث أظهرت التقييمات الأولية التي أجرتها جامعة البلمند باستخدام صور الأقمار الاصطناعية أضرارًا جسيمة طالت الغابات والأراضي الزراعية والمراعي ومنها قرية زينب.
ويؤكد الدكتور جورج متري، مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في الجامعة أن حجم التلوث في التربة والمياه لا يزال غير واضح بسبب صعوبة إجراء مسح ميداني شامل حتى الآن، إذ لا تزال بعض المناطق غير آمنة حيث تتركز الأضرار بشكل رئيسي جنوب نهر الليطاني إذ تعرضت أكثر من 85% من الأراضي المتضررة للقصف والحرائق، كما تأثرت مناطق في البقاع الغربي وشمال الليطاني.
وأكد الدكتور متري أن الضرر امتد ليقضي على مصدر رزق المزارعين، الذين كانوا يعانون أساسا من الأزمة الاقتصادية والتغيرات المناخية حيث فقد المزارعون الصغار مواسمهم بالكامل في 2023 و2024، وسيحتاجون إلى سنوات عديدة لاستعادة قدرتهم على الإنتاج، خاصة أن الأشجار المثمرة تحتاج إلى فترات طويلة قبل أن تعود إلى الإنتاج مجددًا.
رغم أن المشروع منح زينب الأمان، إلا أنها لا زالت تحلم بالعودة قريباً إلى الناقورة، إلى الأرض التي هُجّرت منها. وما تعلمته زينب خلال مشاركتها في المشروع أعطاها الأدوات والمعرفة التي تحتاجها لإحياء أرضها من جديد. وهي تخطط لاتباع تقنيات الزراعة العضوية التي تعلمتها عند عودتها. “سأزرع محاصيل متنوعة، ليس فقط لتلبية احتياجاتنا، بل لتحويل أرضنا إلى مصدر مستدام للغذاء”.
ورغم أن المشروع قد يشارف على نهايته، إلا أن زينب ليست قلقة: “ما تعلمته هنا سيبقى معي أينما ذهبت. سأعود إلى الناقورة وسأعيد إحياء أرضي، وسأستمر في دعم النساء الأخريات حتى يجدن طريقهن كما وجدت طريقي”.
وتؤكد سارة سلوم، عضو مؤسس ورئيسة الحركة الزراعية في لبنان أن المشروع لم يكن مجرد فرصة عمل مؤقتة للنساء النازحات، بل تحول إلى مساحة أمل وإعادة ارتباط بالأرض. “المزارعات اعتبرن المشروع مخرجًا لوضعهن الضاغط داخل مراكز الإيواء. فهن اعتدن على العمل في الأرض، وعندما اشتركن بالمشروع، شعرن بأنه امتداد لما كنّ يفعلنه في قراهن” تضيف.
من جانبها، ترى النائبة عز الدين أن المشروع يسهم بشكل غير مباشر في دعم النساء المزارعات لمواجهة هذا الواقع البيئي الجديد، من خلال تزويدهن بالمعرفة والمهارات اللازمة للتعامل مع الأراضي المتضررة وإعادة استصلاحها. كما يوفّر لهن شتول يمكن استخدامها عند العودة إلى أراضيهن، ما يساعد في إعادة إحياء الإنتاج الزراعي وتعزيز استدامته.
وتختم بالقول: “أثبت المشروع أن الأزمات قد تشكل حافزا لاعتماد أساليب زراعية أكثر استدامة، مما يسهم في تعزيز الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي وسلط الضوء على الدور المحوري الذي تؤديه النساء في مواجهة التحديات وإيجاد حلول مبتكرة تدعم صمود المجتمعات المحلية”.
ويبدو أن زينب والمزارعات الأخريات استعدن ارتباطهنّ بالزراعة والحياة بين الحقول التي تستعيد خضرتها اليوم، فيما يأملن أن تحيا الأرض التي دمرتها الحرب من جديد بأيديهنّ، والمشروع الذي احتضنهن خلال نزوحهنّ سيظل شاهداً على صمودهنّ وقدرتهنّ على البدء من جديد.
ينشر هذا المقال بالتعاون مع منظمة “تاز بانتر” الالمانية ضمن مشروع كرين بانتر