خالد سليمان
يدخل العراق عصرا مناخيا حرجا إذ يؤثر الاحتباس الحراري العالمي على اقتصاده وإنتاجه الغذائي وظروفه الاجتماعية وقطاعات الصحة العامة. ومع التغيرات البيئية الجذرية التي يشعر بها الناس على نطاق واسع، تتضح ملامح آثار التغيرات المناخية على أمن البلاد.
إن الصراعات على المياه وانخفاض إنتاجية الغذاء والنزوح الداخلي جراء الجفاف والتهديدات القائمة للإرهاب، فيما يتعلق بأزمة المناخ المستمرة، قد تقود العراق إلى عصر من الاستقرار غير المؤكد.
بناءً على معلومات موثوقة ودراسات أكاديمية، ترتفع درجة الحرارة في العراق بمعدل أسرع من المتوسط العالمي بمقدار 2 إلى 7 مرات. وقد يؤدي هذا إلى مستقبل قلق فيما يتعلق بالأمن الغذائي وعدم الاستقرار الاجتماعي والمخاطر المتعلقة بالصحة، خاصة في ضوء النمو السكاني الذي يتطلب المزيد من الموارد الغذائية والطاقة والإسكان والخدمات العامة.
وهناك ست تأثيرات مناخية مادية محسوسة في العراق هي: انخفاض الأمطار الموسمية، والجفاف غير المسبوق، والتصحر، وارتفاع درجات الحرارة، والعواصف الغبارية المتكررة وفقدان التنوع الأحيائي.
بالإضافة إلى استمرار الاحتباس الحراري العالمي، إذ يتقاطع تأثر المجالات المذكورة مع الافتقار إلى البنى التحتية مثل الصرف الصحي، وكفاءة إدارة الطاقة وإدارة المياه الفعّالة وكذلك النظم الطبيعية، مما يتسبب في أضرار بيئية واجتماعية واقتصادية غير قابلة للإصلاح. وهذا يعني أن العوامل البشرية ساهمت أيضا في أزمة المناخ في العراق بطرق مختلفة.
بناءً على العديد من التقييمات والتحليلات، يمثل تغير المناخ تهديدا خطيرا للبلاد، ويصنف ضمن مخاطر أمنية متعددة بما في ذلك الأمن الغذائي والنزوح الداخلي والصراعات. ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تفقد البلاد أكثر من 400 ألف دونم – وهي مساحة أكبر من بغداد – من الأراضي الصالحة للزراعة سنويًا بسبب آثار تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة، مما يقود البلاد إلى مستقبل غير مؤكد فيما يتعلق بتوفر الغذاء والاستقرار الاجتماعي. ومن المهم أن نلاحظ أن نقص المياه على المستويات الوطنية أدى إلى انخفاض المحاصيل الزراعية في العراق، مما يؤثر على سبل عيش المزارعين.
النتيجة الأولى لهذا الواقع المناخي هي الصراعات القبلية والنزوح الداخلي بغية الخصول على المياه ويمكن ملاحظة ذلك في المحافظات الجنوبية حيث لا يمكن إخفاء الصراعات الاجتماعية القائمة على ندرة المياه والجفاف. وإلى جانب النازحين داخليا من المناطق الريفية والمهمشة إلى المناطق العليا أو المدن، قد يندلع صراع محتدم على المياه والأرض بين العشائر والقبائل كلما اشتدت موجات الجفاف. وفي السنوات الأخيرة، تحولت النزاعات على المياه بين القبائل إلى اشتباكات مسلحة أسفرت عن أضرار وإصابات.
وفيما يتعلق بالنازحين، وثقت المنظمة الدولية للهجرة، حتى 15 سبتمبر 2023، وجود21798 أسرة تضم (130788 فردًا) لا تزال نازحة بسبب ظروف الجفاف في 12 محافظة عراقية. وعليه، يعيش 50٪ من المزارعين بالفعل تحت خط الفقر، بينما اضطر 40٪ إلى التخلي عن مهنتهم للعثور على مصادر أخرى للدخل وفقًا لاتحاد الجمعيات الزراعية العراقية.
وزارة الزراعة أعلنت في آب 2024، أن العراق خسر 60% من أراضيه الزراعية المروية بسبب تناقص تدفق المياه في نهري دجلة والفرات. وبحسب الدكتور شكري الحسن، أستاذ في قسم الجغرافيا بجامعة البصرة، فإن المياه تأتي على رأس قائمة الموارد الطبيعية التي تتصارع عليها العشائر، خاصة وأن المناطق الجنوبية من العراق تشهد جفافا شديدا ومتكررا. ويسلط الدكتور الحسن، الذي يركز أبحاثه على التلوث البيئي وتحليل القضايا البيئية وتقييم الأثر البيئي، الضوء على أربعة عوامل وراء النزاعات العشائرية هي: تناقص تدفق المياه من نهري دجلة والفرات، وزيادة الطلب على المياه، والتغيرات البيئية الجذرية، وسوء إدارة المياه.
وعلى الرغم من هذا الواقع غير المستقر فيما يتعلق بالاستقرار الاجتماعي بسبب ندرة المياه، فإن 1% فقط من الميزانية الوطنية مخصصة لكل من وزارة الموارد المائية ووزارة الزراعة في العراق، مما لا يترك أي قدرة على التخفيف من مخاطر تأثير تغير المناخ.
كما يرتبط فقدان الأراضي الزراعية بشكل مباشر بتواتر العواصف الغبارية، والتي أصبحت واحدة من آثار أزمة المناخ الثقيلة في العراق. ووفقا للتقييمات المناخية الحالية، يؤثر التصحر على حوالي 40 % من مساحة البلاد، في حين أن أكثر من نصف أراضيها الزراعية الخصبة معرضة لخطر الضياع بسبب التعرية والملوحة. وهذا يجعل معظم الأيام مغبرة وملوثة وتشكل تهديدا للصحة العامة، وتهز الظروف الاجتماعية، وخاصة بين الفئات الاجتماعية الضعيفة.
على سبيل المثال، يعمل العديد من العاملين في الهواء الطلق، بما في ذلك المزارعون والباعة ومربي الماشية، في ظروف مناخية غير مسبوقة دون أي قوانين أو لوائح لحمايتهم من موجات الحر، والتي يمكن أن تتجاوز 50 درجة مئوية في بعض الأيام خلال فصل الصيف. يتفاقم هذا الوضع المناخي الحرج بسبب غياب التأمين الاجتماعي والقوانين البيئية والتوعية العامة والإرشادات الصحية، مما يعرض شرائح كبيرة من المجتمع لمخاطر المناخ، مثل الطلاب في المراحل الابتدائية والمتوسطة والنساء الحوامل والمواليد الجدد.
وعلى الرغم من المخاطر المتصاعدة المرتبطة بتأثيرات تغير المناخ، فإن قانون حماية وتحسين البيئة الفيدرالي العراقي لا يزال قديماً ولا يواكب الأضرار الناجمة عن أزمة المناخ. ومن بين نقاط ضعفه هو عدم ذكر عبارة “تغير المناخ” في أي مادة من هذا التشريع الوطني، الذي يعود تاريخه إلى عام 2009.
علاوة على ذلك، يعد ارتفاع مستوى سطح البحر خطر آخر مرتبط بالمناخ في مستقبل العراق المتوقع. فالبصرة، وهي ثاني أكبر مدينة في البلاد، قد تكون في الغالب تحت الماء قبل نهاية القرن الحالي، ويمكن الشعور بالآثار إلى ما هو أبعد من حدود العراق، وفقًا لدراسة صدرت في عام 2019. ووفقًا لـ (جون كاستيلو) عضو المجلس الاستشاري لمركز المناخ والأمن ومقره واشنطن، فإن المزيد من فقدان الأراضي بسبب ارتفاع منسوب المياه “يهدد بدفع المزيد من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المنطقة، مما قد يؤدي إلى إعادة إشعال الصراع المسلح وزيادة احتمالات الإرهاب”. قال كاستيلو، وهو ملازم أول متقاعد من مشاة البحرية كان رئيسًا لأركان القيادة المركزية للولايات المتحدة أثناء حرب العراق، في مقال نُشر في صحيفة نيويورك تايمز عام 2019 “إنها أكثر من مجرد مشكلة بيئية. إنها مشكلة إنسانية وأمنية وربما عسكرية أيضًا”.
إلى جانب عوامل المناخ المذكورة أعلاه، تساهم عوامل بشرية مختلفة في التدهور البيئي، مثل إنتاج النفط، والنمو السكاني، والاستخدام غير المستدام للموارد الطبيعية، والتوسع الحضري غير المنضبط، ونقص البنى التحتية المرنة. إذ سجلت وزارة التخطيط في العراق 1258.028 ولادة حية في عام 2020 ولايزال هذا الاتجاه التصاعدي في التكاثر السكاني مستمراً في البلاد. وبالتالي، من المتوقع أن يصل عدد السكان إلى 80 مليونا بحلول عام 2050، مما يضع العراق على حافة الهاوية الاجتماعية والبيئية. وبحسب شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة، فإن معدل النمو السكاني في العراق في عام 2023 هو 2.27%، وسيتضاعف عدد سكان البلاد الحالي (46.6 مليون نسمة) بأكثر من الضعف بحلول نهاية عام 2085. وهذا النمو السكاني مثير للقلق بشكل خاص في ضوء النقص الحاد المتزايد في المياه.
باختصار، تتطلب الحوكمة المناخية الفعّالة في العراق نهجا متعدد الأوجه يعالج الفساد، ويعزز التعاون الدولي لمعالجة أزمة المياه، ويقلل من التوترات والصراعات الإقليمية. وفي غياب معالجة هذه التحديات المترابطة، سيواجه العراق خطرا كبيرا بانهيار النظام البيئي. ومن شأن مثل هذا الانهيار أن يخلف عواقب اقتصادية واجتماعية وأمنية وخيمة، بما في ذلك انعدام الأمن الغذائي، وندرة المياه، وزيادة النزوح الداخلي والهجرة المناخية.