بعد هلاك اعداد كبيرة من النخيل.. مشاريع صغيرة لسودانيات تحاول تجاوز التطرف المناخي

السودان – هبه عبد العظيم

 

لم يكن سهلاً على منى قمر الدين (27) عاماً، أن تعيش أزمة التشرد والنزوح من منزلها بالخرطوم بسبب الحرب التي إندلعت في منتصف ابريل في العام 2023، فهي لم تفقد منزلها فحسب، بل فقدت مصنعها المخصص لتصنيع منتجاتها من نواة التمر وخسرت بذلك كل رأس مالها الذي كافحت سنوات لجمعه، ولكن كل ذلك لم يمنعها من العودة إلى عملها الذي تحبه في بلدتها الصغيرة القابعة في شمال السودان حيث موطن أشجار النخيل.

مزجت منى بين شغفها وحبها للتمور منذ الصغر وتخصصها الجامعي في علوم الكيمياء الحيوية وصنعت (18( منتجا من نواة التمور السودانية، إذ تعود معرفة منى بالتمور الى جذورها التي تنحدر من جزيرة مروي على نهر النيل بالولاية الشمالية بالسودان التي تبعد (200 كلم) شمال العاصمة الخرطوم وهي من اكبر المناطق في إنتاج التمور في السودان لذا ترى منى أن مشروعها الذي أطلقت عليه إسم (نواة) يمثل هويتها وشغفها.

لم تثني التغيرات المناخية من عزيمة الفتاة السودانية المثابرة رغم الأثر المباشر لتلك التغيرات على نخيل التمر في السودان مما تسبب في قلة الإنتاج لعامين على التوالي (2023-2024) مما ساهم في إرتفاع اسعار التمور في الاسواق المحلية، وتقول منى بنبرة صوت تكشف عن فخرها واعتزازها بنفسها “تمكنت من تصنيع عدد كبير من المنتجات المفيدة لصحة الانسان من نواة التمر التي تعدها الكثير من دول العالم نفايات او أعلاف للماشية وحصلت على براءة الإختراع لمنتجاتي في الجهات الحكومية السودانية في ظل ظروف قاسية للغاية”.

تتلقى الشابة السودانية اليوم الكثير من الطلبات خاصة لمنتجها مثل القهوة ومستحضرات التجميل المصنعة من نواة التمر إلا أنها تواجه صعوبة في إيجاد تمويل يكفي لتلبية الطلب المتزايد لمنتجاتها، حيث كانت تجلب كمية نواة التمر التي تحتاجها لتصنيع منتجاتها مجاناً من احد المصانع المختصة بتعليب الخضر والفاكهة والتمور في السودان وكانت تأخذ كميات كبيرة منها، إلا أنها فوجئت عقب خريف (يونيو- أكتوبر) العام 2024 بأن المصنع وضع اسعارا على لنواة التمر ولم يعد يعطيها بالمجان.

تقول منى “جوال التمر الواحد يحتوي (90) كيلو جرام قمت بشرائه بمبلغ خمسة آلاف جنيه سوداني أي ما يعادل دولارين، والمصنع برر بيعه لنواة التمر بأن كميات التمور المنتجة هذا العام قليلة للغاية بسبب الرياح العالية والرطوبة والامطار الغزيرة في موسم نضوج التمر مما أدى إلى ارتفاع أسعارها”.

لم تعترض يومها على شراء الخام الذي تحتاجه وتقول “كنت محبطة للغاية فقدت كل ما املك بسبب الحرب التي تسببت في نزوحي وأمي من الخرطوم الى منطقة مروي كما إني لا أستطيع ان أعيش بدون ان اعمل وفوق ذلك كله تسببت السيول والامطار غير المتوقعة في جرف منزلنا في البلدة الصغيرة وبالكاد تمكنا من بناء مظلة من فروع الاشجار أوينا إليها ومنها كنت أنتج هذه المواد بمساعدة عدد من فتيات قريتي اللائي قمت بتدريبهن”.

ووفقاً لمنظمة الاغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) فإن السودان يأتي في المرتبة الثامنة في إنتاج التمور على مستوى العالم وفي المرتبة الخامسة عربياً ، وينتج السودان نحو (445) الف طن من عدد ثمانية ملايين شجرة نخيل منها مليوني نخلة على ضفاف النيل في الولايات الشمالية.

وزارة التجارة السودانية تؤكد ان السودان يصدر 5% من انتاجه من التمور. ويعتمد نحو 90% من سكان الولاية الشمالية في معاشهم على التجارة في التمور كما يعتمدون عليها كغذاء رئيسي لهم.

ويأتي السودان في المرتبة الثامنة من حيث قابلية التأثر بتغير المناخ من أصل (185) دولة في العالم بحسب مصفوفة مبادرة التكيف العالمية لجامعة نوتردام فقد أظهر السودان علامات واضحة على قابلية التأثر بتغير المناخ.

محاولات أخرى للتكيف

وبينما تفادت قمر الدين تأثير التغيرات المناخية على التمور وصنعت اصناف مختلفة من نواة التمر، فضلت سمية حسن أن تتنج عدة اصناف من التمور نفسها وتحاول أن تختار اجودها وهو صنف من التمور معروف بإسم دكنة رغم ما اصاب التمر من امراض تسببت في انخفاض جودته الا أن هذا الصنف ما زال يحتفظ ببعض الجودة حيث تقوم بتجفيفه وإستخدامه كبودرة تمر وصناعة الحلويات منه.

سمية لم تكمل تعليمها وأخرجها أهلها من المرحلة الثانوية لتتزوج وتصبح أم لطفلين اكبرهما في الثالثة عشر من عمره هي صاحبة مبادرة “النخلة ثروتنا” والتي تهتم بنخيل التمر وإنتاج التمور والاستفادة من مخلفات النخيل وإعادة تدويرها وتم تسجيل هذه المبادرة مؤخراً كشركة مساهمة جماعية، تمكنت من الاستفادة من التمور المنتجة بمزرعتهم بمنطقة السكوت بالولاية الشمالية وتقع في اقصى الشمال وهي منطقة معروفة بوجود أمهات نخيل التمر في السودان.

حينما بدأت مشروعها عام 2018 كان رأس المال دولار واحد فحسب وقامت بإنتاج (27) صنفا من منتجات التمور أشهرها عسل التمر والحلويات التي تصنع من عجينة التمر وخل التمر.

تقول سمية “الهدف من عملي هو مساعدة اسرتي الكبيرة والصغيرة في المعيشة وتكاليف الحياة بعدما أصبح بيع التمور التي تنتجها مزرعتنا لا يغطي تكاليف الحياة بسبب قلة الانتاج ، إضافة إلى ممارسة هوايتي التي أحبها للغاية في تصنيع التمور إلا أن الظروف المناخية في السنوات الاخيرة تسببت في إنخفاض إنتاجنا من التمور، وكنت لا أشتري التمر مطلقاً ولكن منذ العام الماضي اضطررت لشرائه لتصنيع منتجاتي، وبالكاد تمكنا من تخزين بعضه لشهر رمضان” وجدت سمية حلاً لتعويض خسارتها المالية  بسبب إرتفاع اسعار التمور بأن إستفادت من مخلفات ما تصنعه من التمور بتجفيفها وطحنها وتقديمه اعلافا للماشية.

جولة في مزارع نخيل التمر

على مدى ثلاثة أيام زرت عشرين حقلا من حقول النخيل في مدينة دنقلا بالولاية الشمالية حيث أعيش هنا مؤقتا بسبب الحرب، تتراوح اعداد النخيل في الحقل الواحد بين (40-100) نخلة، واكتشفت اثناء جولتي وجود اضرار في (17) حقلا منها حيث سقطت بين (3-6) نخلات في الحقل الواحد بسبب الاعاصير والرياح العالية في خريف 2024، بينما اشتكى اصحابها من قلة الإنتاج بسبب الامراض التي أصابت التمور.

يقول نوري ود النميري صاحب أحد الحقول بجزيرة لبب جنوب شرق مدينة دنقلا “لم ينجح التمر العام الماضي والعام الذي قبله بسبب تغير الجو، ورغم حبي للتمور أزلت جذوع بعض اشجار النخيل التي سقطت واخرى أصابتها الارضه وزرعت مكانهم اشجار الليمون وسعيد بإنتاجها الوفير دون مشاكل أو إحباط”.

يشير مزارع آخر إلى سور به عدد كبير من الاغنام والابقار والخراف ويقول” كانت فكرة زوجتي أن استفيد من التمور التالفة في الثلاث سنوات الاخيرة كعلف للماشية حيث اشارت علي بأن اشتري ماشية أكثر واطعمها من التمر وبذلك لا يكلفني إطعامها أي تكاليف وأصبحنا نبيع اللبن لأن التمور تعتبر مدرة للبن”.

” تأثرت الزراعة بصورة عامه والتمور بصفة خاصة بالتغير المناخي الذي اصبح مؤثرا على قطاع النخيل بسبب زيادة معدلات الامطار والرطوبة وارتفاع درجات الحرارة، هناك اصناف من التمور لا تتحمل الرطوبة العالية ” هكذا يبادر بروفسيور داؤود حسين داؤود ممثل  المنظمة العربية للتنمية الزراعية وخبير التمور حديثه.

ويقول أن تأثير الانماط المتطرفة في المناخ في الولاية الشمالية أثر بشكل كبير على الاصناف الجافه من التمور والتي تشتهر بها المنطقة ويوصي داؤود بزراعة محاصيل بديلة لنخيل التمر لمواجهة التغيرات المناخية كالموز والعنب واقترح تدريب المزارعين بواسطة ادارات الارشاد الزراعي الحكومي ويقول أن آخر مسوحاتهم في أكتوبر 2024 لاحظت ظاهرة ذبول الثمار في التمور في الولاية الشمالية وتعرف هذه الظاهرة محليا بـ(الكرموش) ويطلق عليها عالمياً (Date bunch fading disorder)حيث تتجعد الثمار وتجف ولا تصلح الا كعلف للحيوانات.

وفي احد الحقول وجدت سيدة سبعينية تجلس على ظلال الاشجار تنسج من سعف النخيل سجادا للأرضيات بالوان زاهية يطلق عليه السودانيون تسمية ( بروش ) وبجانبها عدد من المكانس ، سألتها : هل صنعتي هذه المكانس أيضا ؟ أجابت بإبتسامة نعم وهناك الكثير منها داخل المنزل. واصلت السيدة حديثها بلغة عربية مكسرة بما أن لغتها الام هي اللغة النوبية” فكرت في الاستفادة من سعف النخيل قبل أن يتلف مثلما تلف التمر ، يجب أن نعوض خسارتنا في التمور، بيع البروش يعوض ذلك ثم ان صناعته من موروثات جداتنا”.

جلست بجانبها لساعات اراقبها وهي تصنع تلك السجاجيد وتقوم أحياناً بتحضير الالوان حيث تطحن الطوب الاحمر وتغمره بالماء وتتركه لفترة ثم تنقع فيه أطراف السجاد وتعود لتنسج باقي السعف بكل رضا والابتسامة لا تفارق محياها ثم التفتت نحوي وقالت “يا ابنتي طالما أن لدينا عقل يعمل لن نتوقف عن إيجاد الحلول”.

 

ينشر هذا المقال بالتعاون مع منظمة “تاز بانتر” الالمانية ضمن مشروع كرين بانتر 

Total
0
Shares
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts