د. علاء نجاح
لطالما شقت نساء الاهوار جبهة الهور بالمشحوف المنساب على امواج المياه ذهابا وايابا محملة بالقصب والبردي واحيانا باسماك البني والشابك والحمري والزوري لتقطع المسافات دون كلل او تعب رغم الصعوبات، فهن يعرفن جيدا تفاصيل وطرق الهور بحكم الخبرة والنشأة هناك.
وتعددت المهن التي يمتهنن فمنهن من يبيع السمك وتسمى (السفاطات) ومنهن من يحوك (الباريات) من القصب والبردي إذ تباع او يبنى بهن الاكواخ للسكن ومنهن من يربي الجاموس ويحصد خيراته من الحليب والقيمر والجبن واشهره (جبن الكصايب) اضافة الى اعمال المنزل وتربية الاطفال والاعتناء بهم ومقابل ذلك فطلبات المرأة الاهوارية بسيطة لا تتعدى لقمة عيشها وثيابا تكسوها واطفالها وبخورا لتبخير كوخها الصغير.
ولكن للأسف كل ما تقدم انهار وتبخر مع انحسار المياه وجفاف الاهوار الذي اجبر النساء وعوائلهن على النزوح الى محافظات اخرى بحثا عن الرزق وتم استبدال الكوخ المحاك من القصب والبردي بخيمة بسيطة مصنوعة من رقع الاقمشة وفي أفضل الاحوال لا تتعدى المترين.
عشرات العائلات تستقر في بقعة لا تتجاوز الدونم الواحد او الدونمين تبرع بها احد الميسورين هناك ووافق ان يستقروا في ارضه تنصب الخيام مع حلول شهر سبتمبر وتستمر الى نهاية فبراير اي طيلة الخريف والشتاء هذا المكان هو قضاء الحسينية في محافظة كربلاء المشهور ببساتين النخيل اذ تعمل النساء في مهنة جمع التمر ويطلق عليهن تسمية (الطواشات).
نعم انه النزوح المناخي المؤقت او الموسمي لأنه يبدأ وينتهي مع موسم جني التمور، اما النزوح الدائم فموجود في مناطق أخرى في كربلاء مثل (هور حسين) وخارج احياء الغدير والتحدي والتعاون إذ يقطن النازحون في تجمعات صغيرة غير نظامية يسميها العراقيون (تجاوز) في إشارة الى عائدية الأرض الى الدولة وسكن المواطنين فيها دون موافقات، وتمتهن النساء الساكنات هناك بيع الفواكة والخضر على شكل (بسطيات) صغيرة او يبعن الماء والعصائر وقد يزاولن اعمال يدوية بسيطة مثل حياكة الحصران والمكانس من سعف النخيل.
والحال لا يختلف كثيرا في النجف فالنزوح المتواصل على مدى سنوات لعائلات متضررة بسبب الجفاف من جنوب العراق اسهم لاحقا في تكوين حي خاص بالنازحين بالقرب من مقبرة وادي السلام سمي لاحقا (حي الرحمة)، وهنا فرض التواجد بالقرب من القبور مهنة جديدة على النساء والاطفال مثل بيع ماء الورد وقناني الماء والبخور والشموع ويستطيع الزائر الى هذه المحافظة والى هذا المكان بالتحديد رؤية كمية البؤس الذي يعيشه هؤلاء النازحين والمستقرين في بيوت معظمها من الصفيح.
وفي بغداد امتهنت النساء النازحات مهن بعيدة كل البعد عن قدراتهن الجسدية طلبا للقمة العيش مثل العمل في معامل الطابوق في النهروان اذ تقول احداهن التقيتها ذات مرة “العمل شرف ولا استطيع الجلوس وندب الحظ لابد ان اتكيف مع الواقع فأنا وعائلتي نحتاج الى مصدر رزق.
وتتمتع نساء الاهوار بقدرة كبيرة على التكيف والتعايش مع الواقع المؤلم بمعنى ايجاد فرص العمل اذ لا يستطعن السكون والجلوس في البيت دون عمل فمع ارتفاع درجات الحرارة في البصرة واضطرارهن للسكن هناك في احياء ومساكن غير نظامية (تجاوز) الا ان وجود المدينة الرياضية في البصرة وانطلاق مواسم البطولات والمباريات وفر لهؤلاء النساء مهن اخرى بسيطة مثل بيع العصائر وقناني الماء.
في احدى المرات تحدثت بشكل مباشر معهن واستفسرت عن احوالهن وبالتأكيد كانت الغصة كبيرة الا ان ما باليد حيلة فمن الصعب ان تهجر حياتك السابقة وما تعودت عليه لسنوات لتستقر في واقع مر وظروف صعبة تجبرك ان تتخلى عن كل ما تملك استقرارك، وحيواناتك، وامنك، وجيرانك، كما ويتسرب اطفالك من المدارس امام عينك.
واحيانا تفرض عليك الحياة الجديدة عادات وانماط سلوك جديدة لم تختبرها يوما في حياتك السابقة، وربما انت نفسك كنازح تفرض على الاخرين بوعي او دون وعي عادات وتقاليد بعيدة او دخيلة عليهم مثل المعارك العشائرية التي حدثت قبل اسابيع في كربلاء بين عشيرتين نازحتين من محافظة ذي قار إذ تطلب الامر تدخلا امنيا كبيرا لفض النزاع في مشهد لم يألفه سكان المدينة من قبل.
وهناك الكثير من المتغيرات الأخرى في حياة المتضررين من الجفاف وارتفاع درجات الحرارة الذين نزحوا من الاهوار والحقول بعد التصحر ونفوق الحيوانات إذ هجر هؤلاء الناس مساكنهم والحسرة في صدورهم حاملين في مخيلتهم ذكريات لوحة فنية بالألوان لأرض الأجداد تظهر فيها اكواخهم العائمة على الماء والمصنوعة من القصب والبردي وسط الهور حيث يسبح الجاموس بالقرب منهم وتتعالى رائحة السمك المشوي مع اتجاه الريح لتعم المكان.